كان جامع الزيتونة محور عناية الخلفاء والأمراء الذين تعاقبوا على إفريقية، إلا أن الغلبة كانت للبصمات الأغلبية ولمنحى محاكاته بجامع القيروان، وقد منحته تلك البصمات عناصر يتميز بها إلى اليوم.
وتتمثل أهم هذه العناصر في بيت صلاة على شكل مربع غير منتظم، وسبع بلاطات مسكبة معمدة تحتوي على 15 مترًا مربعًا، وهي مغطّاة بسقوف منبسطة. وقد اعتمد أساسًا على الحجارة في بناء جامع الزيتونة مع استعمال الطوب في بعض الأماكن.
وتتميّز قبّة محرابه بزخرفة كامل المساحة الظاهرة في الطوابق الثلاثة بزخارف بالغة في الدقة، تعتبر الأنموذج الفريد الموجود من نوعه في العمارة الإسلامية في عصورها الأولى.
ومثلما اختلف المؤرخون حول باني المسجد الجامع، فقد اختلف الرواة حول جذر تسميته؛ فمنهم من ذكر أن الفاتحين وجدوا في مكان الجامع شجرة زيتون منفردة فاستأنسوا بها.
وقالوا: إنها لتؤنس هذه الخضراء، وأطلقوا على الجامع الذي بنوه هناك اسم جامع الزيتونة.
جامع الزيتونة.. أول جامعة إسلامية:
لم يكن المعمار وجماليته الاستثناء الوحيد الذي تمتّع به جامع الزيتونة، بل شكّل دوره الحضاري والعلمي الريادة في العالم العربي والإسلامي؛ إذ اتخذ مفهوم الجامعة الإسلامية منذ تأسيسه وتثبيت مكانته كمركز للتدريس، وقد لعب الجامع دورًا طليعيًّا في نشر الثقافة العربية الإسلامية في بلاد المغرب.
وفي رحابه تأسست أول مدرسة فكرية بإفريقية أشاعت روحًا علميّة صارمة ومنهجًا حديثًا في تتبع المسائل نقدًا وتمحيصًا، ومن أبرز رموز هذه المدرسة علي بن زياد مؤسسها، وأسد بن الفرات والإمام سحنون صاحب المدوّنة التي رتبت المذهب المالكي وقننته.
وكذلك اشتهرت الجامعة الزيتونية في العهد الحفصي بالفقيه المفسّر والمحدّث محمد بن عرفة التونسي صاحب المصنّفات العديدة، وابن خلدون المؤرخ ومبتكر علم الاجتماع.
وقد تخرّج في الزيتونة طوال مسيرتها آلاف العلماء والمصلحين الذين عملوا على إصلاح أمّة الإسلام والنهوض بها؛ إذ لم تكتف جامعة الزيتونة بأن تكون منارة تشع بعلمها وفكرها في العالم وتساهم في مسيرة الإبداع والتقدم، وتقوم على العلم الصحيح والمعرفة الحقة والقيم الإسلامية السمحة.
وإنما كانت أيضًا قاعدة للتحرّر والتحرير من خلال إعداد الزعامات الوطنية وترسيخ الوعي بالهوية العربية الإسلامية؛ ففيها تخرج المؤرخ ابن خلدون، وابن عرفة، وإبراهيم الرياحي، وسالم بوحاجب.
ومحمد النخلي، ومحمد الطاهر بن عاشور صاحب تفسير التحرير والتنوير، ومحمد الخضر حسين شيخ جامع الأزهر، ومحمد العزيز جعيط، والمصلح الزعيم عبد العزيز الثعالبي.
وشاعر تونس أبو القاسم الشابي صاحب "ديوان أغاني الحياة"، والطاهر الحداد صاحب كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، وغيرهم كثير من النخب التونسية والمغاربية والعربية.
لقد تجاوز إشعاع جامعة الزيتونة حدود تونس ليصل إلى سائر الأقطار الإسلامية، ولعلّ المفكر العربي الكبير شكيب أرسلان يوجز دور الزيتونة عندما اعتبره -إلى جانب الأزهر والأموي والقرويين- أكبر حصن للغة العربية والشريعة الإسلامية في القرون الأخيرة.
لقد مرّت الآن أكثر من 1300 سنة على قيام جامع الزيتونة، والذي شهد -ومنذ بنائه- تحسينات وتوسعات وترميمات مختلفة، بدءًا من العهد الأغلبي حتى الوقت الحالي، ومرورًا بالحفصيين والمراديين والحسينيين.
وهم آخر ملوك تونس قبل إقرار النظام الجمهوري؛ لذلك حافظ هذا الجامع باستمرار على رونقه ليبقى في قلب كل المناسبات، وليكون شاهدًا على تأصُّل تونس في إسلامها منذ قرون وقرون.
ومع دوره كمكان للصلاة والعبادة كان جامع الزيتونة منارة للعلم والتعليم على غرار المساجد الكبرى في مختلف أصقاع العالم الإسلامي، حيث تلتئم حلقات الدرس حول الأئمة والمشايخ للاستزادة من علوم الدين ومقاصد الشريعة.
وبمرور الزمن أخذ التدريس في جامع الزيتونة يتخذ شكلًا نظاميًّا حتى غدا في القرن الثامن للهجرة عصر (ابن خلدون) بمنزلة المؤسسة الجامعية التي لها قوانينها ونواميسها وعاداتها وتقاليدها ومناهجها وإجازاتها، وتشدّ إليها الرحال من مختلف أنحاء المغرب العربي؛ طلبًا للعلم أو للاستزادة منه.
وقد تتالت إصلاحات التعليم الزيتوني في العهد الحسيني خاصة في عهد الوزير خير الدين باشا، ثم بمبادرة من بعض العلماء والطلبة خلال فترة الاستعمار الفرنسي (1956- 1881م)، حيث أجريت محاولات لتحديثه من خلال إدخال بعض العلوم الصحيحة في مناهجه.
الكاتب: عبد الجليل لطفي
المصدر: موقع إسلام ويب